صلاح رشاد .. يكتب: سفراء «الأمين» يتوجهون إلي خراسان
مخطئ من يظن أن الأمين لم يكن حوله رجال أفذاذ مثل هؤلاء الذين كانوا حول أخيه المأمون، بل ربما كان يمتلك عددا كبيرا من هذه النوعية خاصة أنه الخليفة صاحب الأمر والنهي، والمنع والمنح، لكن مشكلة محمد الأمين أنه كان متعجلا، ولم ينتظر حتي يصل ابنه موسي إلي سن الشباب ليكون مطلبه بخلع أخيه فيه بعض الحجة والمنطق، لكن عندما أراد خلع المأمون كان ابنه موسي في الخامسة من عمره، يعني مجرد طفل صغير لا يعلم عن دنياه شيئا.
قد يقول قائل إن هارون الرشيد جعل الأمين ولي عهد وهو أيضا في الخامسة من عمره، فهذه مثل تلك، ونعتقد أن القياس خاطئ في هذه الجزئية، لأن الرشيد لم يكن له ولي عهد وخاف أن يطمع في الخلافة بعض أبناء عمومته ومنهم من كان يتطلع إليها ويري أنه جدير بها، لكن الأمين كان له اثنان من ولاة العهود وليس واحدا، وهما أخواه المأمون والمؤتمن.
وكان المأمون أحق من الأمين لأنه أكبر سنا وأنضج عقلا، لكن كما تحدثنا قبل ذلك، كان الرشيد قد تعرض لضغوط هائلة من زوجته زبيدة ورجال البيت العباسي الذين كان هواهم مع محمد الأمين الهاشمي أبا وأما، ولتحجيم العنصر الفارسي وتقليم أظافره في صناعة القرار داخل دولة الخلافة.
نعود من جديد إلي البلاط العباسي في عهد الأمين وننظر إلي الرجال الذين حوله، فلم يكونوا كلهم بنفس مكر وخبث الفضل بن الربيع وعلي بن عيسي بن ماهان وهما أكثر الناس سعيا لخلع المأمون، كان هناك القائد خزيمة بن خازم الذي نصح الأمين بعدم الإقدام علي هذه الخطوة خوفا من عواقبها، وكان هناك يحيي بن سليم الذي دار بينه وبين الأمين حوار ثري جاء في كتاب “عصر المأمون” لأحمد فريد رفاعي.
قال يحيى بن سليم للأمين حين مشاورته له في خلع المأمون: يا أمير المؤمنين، كيف بذلك لك مع ما قد وكَّد الرشيد من بيعته، وتوثق بها من عهده، والأخذ للأيمان والشرائط في الكتاب الذي كتبه؟
فقال له محمد الأمين: إن رأي الرشيد كان فلتة شبهها عليه جعفر بن يحيى بسحره، فغرس لنا غرسًا مكروهًا لا ينفعنا ما نحن فيه معه إلا بقطعه، ولا تستقيم لنا الأمور إلا باجتثاثه والراحة منه.
فقال يحيي: أما إذا كان رأي أمير المؤمنين خلعه فلا تجاهره مجاهرة، فيستنكرها الناس ويستشنعها العامة، ولكن تستدعي الجند بعد الجند، والقائد بعد القائد، وتؤنسه بالألطاف والهدايا، وتفرِّق في ثقاته ومن معه، وتُرغِّبهم بالأموال وتستميلهم بالأطماع، فإذا وهنت قوته واستفرغت رجاله أمَرته بالقدوم عليك، فإن قدِم صار إلى الذي تريد منه، وإن رفض كنت قد تناولته وقد كلَّ حدُّه وهيض جناحه، وضعف ركنه وانقطع عزه.
فقال الأمين : أنت مهذار خطيب، ولستَ بذي رأيٍ، فزُلْ عن هذا الرأي إلى الشيخ الموفق والوزير الناصح الفضل بن الربيع، قُمْ فالحق بمدادك وأقلامك.
وضع يحيي بن سليم للأمين خطة محكمة لتضييق الخناق علي المأمون طالما أنه مصمم علي خلعه بأن يشتري ولاءات قواده وكبار رجاله، فإن وافق المأمون علي الخلع فهذا هو المراد، وإن رفض كان القضاء عليه سهلا بعد أن تخلي عنه القادة والجند.
ولكن الأمين ضرب بهذا الرأي الوجيه عرض الحائط، لكنه لم يعاند عندما استمع لرأي احد كتاب دار الخلافة وهو اسماعيل بن صبيح الذي قال: يا أمير المؤمنين، إن مسألتك الصفح عما في يدي المأمون توليد للظن، وتقوية للتهمة، ومدعاة للحذر، ولكن اكتب إليه فأعلمه حاجتك إليه، وما تحب من قربه والاستعانة برأيه، وسَلْه القدوم إليك؛ فإن ذلك أبلغ وأحرى أن يبلغ فيما يوجب طاعته وإجابته.
فقال الفضل: القول ما قال يا أمير المؤمنين.
وطالما أن الفضل وافق علي هذا الرأي فما أسرع موافقة الأمين الذي كان كما قلنا عجينة سهلة التشكيل في يدي وزيره وحاجبه الفضل بن الربيع .. قال الأمين : فليكتب بما رأى، قال: فكتب إليه:
من عند الأمين محمد أمير المؤمنين إلى أخيه عبد الله أما بعد، فإن أمير المؤمنين رأى في أمرك والموضع الذي أنت فيه من ثغرك، وما يؤمل في قربك من المعاونة على ما حمَّله الله وقلَّده من أمور عباده وبلاده، وعلم أمير المؤمنين أن مكانك بالقرب منه أسدُّ للثغور وأصلحُ للجنود من مقامك ببلاد خراسان مُنقطعًا عن أهل بيتك، متغيبًا عن أمير المؤمنين وما يحب الاستماعَ به من رأيك وتدبيرك، وقد رأى أمير المؤمنين أن يولي موسى ابن أمير المؤمنين فيما يُقلِّده من خلافتك ما يحدث إليه من أمرك ونهيك، فاقدَمْ على أمير المؤمنين على بركة الله وعونه، بأبسط أمل، وأفسح رجاء، وأحمد عاقبة، وأنفذ بصيرة، فإنك أولى مَن استعان به أمير المؤمنين على أموره، واحتمل عنه النصب فيما فيه صلاح أهل بيته وذمته، والسلام.
وأرسل الأمين هذا الكتاب مع سفرائه إلي المأمون وكانوا أربعة رجال، هم: خاله عيسي بن جعفر بن أبي جعفر المنصور والعباس بن موسي بن عيسي وصالح صاحب المصلي والقائد محمد بن عيسي بن نهيك.
فماذا كان رد المأمون علي كتاب أخيه الأمين؟
وكيف كان استقباله لسفراء الخليفة؟
وماذا كان رد فعل الداهية الفضل بن سهل ؟
كل هذه التساؤلات سنجيب عنها في الحلقة المقبلة إن شاء الله